كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين، وإما من المشركين. ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المئة الثانية، زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال، ابتداء من جنس ما ألقاه في قولب أشباههم.
ولما كان في حدود المئة الثانية، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة- مثل مالك رضي الله عنه وسفيان بن عيينة، وأبي يوسف والشافعي، وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم- في بشر المريسي هذا كثير في ذمة وتضليله.
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عُمَر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين البصري وابن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم، وهي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضًا، ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بيَّنت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي. وعلمنا ذلك بكتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري، صنف كتابًا سماه نقض عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذي اتصلت إليهم من جهته، ثم ردها عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكيّ، علم حقيقة ما كان عليه السلف فتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم.
ثم إذا رأى الأئمة- أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفّروهم، أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين، هو مذهب المريسي تبين له الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال رضي الله عنه:
مذهب السلف بين التعطيل وبين يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته.
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون، فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثلوا أولًا، وعطلوا آخرًا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، تعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.
فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا، وكل ذلك محال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان، على أي: جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله، ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة، كما يلزم سائر الأجسام. وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرًا أو عرضًا، إذا لا يعقل موجود إلا هذان، أو قوله: إذا كان مستويًا على العرش، فهو مماثل لاستواء الْإِنْسَاْن على السرير أو الفُلك، إذا لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما مثّل، كلاهما عطّل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للإستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط، من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقُدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.
واعلم أنه ليس في العقل الصحيح، ولا في النقل الصريح، ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلًا، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة عن الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها، فذلك سهل يسير. انتهى كلامه.
ومن أحاط عقله بهذه الغرر، علم براءة ساحة السلف مما رموا به من التجسيم.
وفي هذه النفائس من الفوائد ما يشفع لدى الواقف بطوله.
الثالث: يطلق العرش على معان: السرير، ومنه آية: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} والملك، يقال: ثل عرشهم. وسقف البيت، ومنه آية: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}، وحديث «كالقنديل المعلق بالعرش» أو البناء، ومنه: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} أي: يبنون ومنه: العريش، وهو ما يستظل به. والعرش المضاف إلى الله تعالى لا يحد.
قال في القاموس: العرش، عرش الله تعالى، ولا يحدّ. انتهى.
وقال الراغب: عرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالإسم على الحقيقة، ولذا لم يصح في صفته حديث، وكل ما روي في ذلك فليس من مرويات الصحاح.
قال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات: وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم، خلقه الله تعالى، وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتًا، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي أكثر الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه، وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك. انتهى.
وقال الحافظ الذهبي في كتاب العلو: اعلم أن الله عز وجل، قد أخبرنا، وهو أصدق القائلين، بأن عرش بلقيس عرش عظيم: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}
ثم ختم الآية بقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم}، فكان عرشها عظيمًا بالنسبة إليها، وما نحيط الآن علمًا بتفاصيل عرشها ولا بمقداره ولا بماهيته.
ثم قال: فما الظن بما أعد الله تعالى من السُّرر والقصور في الجنة لعباده، فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته الحافين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته؟ اسمع وتعقل ما يقال، والجأ إلى الإيمان بالغيب، فليس الخبر كالمعاينة، فالقرآن مشحون بذكر العرش، وكذلك الآثار، بما يمتنع أن يكون المراد به الملك. فدع المكابرة والمراء، فإن المراء في القرآن كفر.
آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون، لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم، الحمد لله رب العالمين. انتهى كلام الذهبي- رحمه الله تعالى-.
الرابع: سئل الشيخ تقي الدين بن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، عن العرش: هل هو كري أم لا، فإذا كان كريًا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة توجه العبد إلى الله سبحانه حين الدعاء والعبادة، فيقصد العلو دون غيره، إذا لا فرق حينئذ بين الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصدًا يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة. فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها.
فأجاب رحمه الله بقوله: إن لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرّية، وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة، فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع، وهو الأطلس، محيط بها، وهو الذي يحركها الحركة الشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله سبحانه وكرسيه والسموات السبع، فقالوا بطريق الظن: إن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء ذلك شيء، إما مطلقًا وإما أنه ليس وراءه مخلوق.
ثم إن منهم من رأى أنه هو الذي يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وربما سماه بعضهم الروح أو النفس. وجعله بعضهم هو اللوح المحفوظ، وبعض الناس ادعى أنه علم ذلك بطريق الكشف، وذلك غير صحيح، بل أخذه من هؤلاء المتفلسفة، كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفاء.
والأخبار تدل أن العرش مباين لغيره من المخلوقات، وأنه قبل السموات والأرض. فقد ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض، وأن له قوائم» كما في حديث أبي سعيد: «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش».
وقد استدل من قال إنه مقبب، بما رواه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام «وإن الله تعالى على عرشه، وإن عرشه على سمواته، وسمواته فوق أرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة».
وهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، ولا مستدير مثل ذلك، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلو، لا من جميع الجوانب، إلا بدليل منفصل، ولفظ الفلك يستدل به على الإستدارة مطلقًا، كما قال ابن عباس في: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ}: في فلكة مثل فلكة المغزل، وأما لفظ القبة فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا بنفي ولا إثبات، لكن يدل على الإستدارة من العلو.
واعلم أن العرش، وسواء كان هذا الفلك التاسع، أو جسمًا محيطًا به أو كان فوقه من جهة وجه الأرض، محيط به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟»، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟».
وفي لفظ: ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء.
وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة} الآية، قال: مطويّة في كفه، يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة، ففي هذه الأحاديث وغيرها، المتفق على صحتها، ما يبين أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل، أصغر من أن تكون مع قبضه لها، إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا، حتى يدحوها كما تدحى الكرة.
ثم قال في الجواب: فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف علم ما سواه، فلا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف، وإذا كان كذلك، فهو قادر على أن يقضها ويدحوها كالكرة، في ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل.
وبكل حال فهو مباين لها، ليس بمجانب لها، ومن المعلوم أن الواحد منا- ولله المثل الأعلى- إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها، فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها، بل جعلها تحته، فهو في الحالين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات، كإحاطة الكرة بما فيها، أم قيل إنه فوقها وليس محيطًا بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك، فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه فوقه، والعبد في توجهه إليه عز وجل، يقصد العلو، دون التحت.
وتمام هذا البحث بأن يقال: لا يخلو إما أن يكون العرش كريًا كالأفلاك ويكون محيطًا بها، وإما أن يكون فوقها، وليس بكري.